فصل: ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ظفر المسلمين بالكرج أيضًا

و في هذه السنة أيضًا سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس بعد الفارس فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافًا لهم واغترارًا بحصانة موضعهم وأنه لا طريق إليهم‏.‏

وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج فوصلوا إلى ذلك المضيق فجاوزوه مخاطرين فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا وولى الباقون منهزمين لا يلوي والد على ولده ولا أخ على أخيه وأسر منهم جمع كثير صالح فعظم الأمر عليهم وعزموا على الأخذ بثأرهم والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم‏.‏

فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى مراغة على ما نذكره إن شاء الله فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك صاحب أذربيجان يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين وقالوا‏:‏ إن لم نتفق نحن وأنت وإلا أخذك ثم أخذنا فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

في هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان وسبب ذلك أنه لما سار من دقوقا كما ذكرناه قصد مراغة فملكها وأقام بها وشرع في عمارة البلد فاستحسنه فلما وصل إليها أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيس وهو خال أخيه غياث الدين قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين‏.‏

وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكرًا كثيرًا يبلغون خمسة آلاف فارس‏.‏

ونهب كثيرًا من أذربيجان وسار إلى البحر من بلد أران فشتى هنالك لقلة البرد ولما عاد إلى همذان نهب أذربيجان أيضًا مرة ثانية‏.‏

وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وغيرها فسار ليستولي عليها كما أمر فلما سمع جلال الدين بذلك سار جريدة إليه فوصل إلى إيغان طائيسي ليلًا وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم‏.‏

فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان علموا أنه جلال الدين وبقي إيغان طائيسي وحده إلى أن أضاف إليه جلال الدين عسكرًا غير عسكره وعاد إلى مراغة و أعجبه المقام بها‏.‏

وكان أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران قد سار من تبريز إلى كنجة خوفًا من جلال الدين وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم ن يتردد عسكره إليهم يمتارون فأجابوه إلى ذلك وأطاوه فتردد العسكر إليها وباعوا واشتورا الأقوات والكسوات وغيرها ومدوا أيديهم إلى أموال الناس فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم وأمره أن يقيم بتبريز ويكف أيدي الجند عن أهلها ومن تعدى على أحد منهم صلبه‏.‏

فأقام الشحنة ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس وكانت زوجة أوزبك وهي ابنة السلطان طغرا بن أسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مقيمة بتبريز وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب‏.‏

ثم إن أهل تبريز شكو شكوا من الشحنة وقالوا‏:‏ إنه يكلفنا أكثر من طاقتنا فأمر جلال الدين أنه لا يعطى إلا ما يقمي به لا غير فعلوا ذلك وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام وقاتل أهلها قتالًا شديدًا وزحف إليها فوصل العسكر إلى السور فأذعن أهلها بالطاعة وأرسلوا يطلبون الأمان منه لأنه كان يذمهم ويقول‏:‏ قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة فخافوا منه لذلك فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلكن وإنما فعله صاحبهم ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه فعذرهم وأمنهم وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان وهو مدينة خوي وغيرها من ملك ومال وغيره‏.‏

فأجابهم إلى ذلك‏.‏

وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة وسير زوجة أوزبك إلى خوي ومعها طائفة من العسكر مع رجل كبير القدر عظيم المنزلة وأمرهم بخدمتها فإذا وصلت إلى خوي عادوا عنها‏.‏

ولما رحل جلال الدين إلى تبريز أمر أن لا يمنعوا عنه أحدًا من أهلها فأتاه الناس مسلمين عليه فلم يحجبوا عنه وأحسن إليهم وبث فيهم العدل ووعدهم الإحسان والزيادة منه وقال لهم‏:‏ قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خرابًا وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم وعمارة بلادكم‏.‏

وأقام إلى يوم الجمعة فحضر الجامع فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة قام قائمًا ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس‏.‏

ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره وأخرج عليه من الأموال كثيرًا فهو في غاية الحسن مشرف على البساتين فلما طاف فيه خرج منه وقال‏:‏ هذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا‏.‏

وأقام أيامًا استولى فيها على غيرها من البلاد وسير الجيوش إلى بلاد الكرج‏.‏

  ذكر انهزام الكرج من جلال الدين

قد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان الكرج يفعلونه في بلاد الإسلام‏:‏ خلاط وأذربيجان وأران وأرزن الروم ودربند شروان وهذه ولايات تجاور بلادهم وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين وينهبون من أموالهم ويملكون من بلادهم والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي كل يوم قد أغاروا عليهم وقتلوا فيهم وقاطعوهم على ما شاؤوا من الأموال فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك سألنا الله تعالى نحن والمسلمون في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم ويأخذ بثأرهم فإن أوزبك صاحب أذربيجان منعكف على شهوة بطنه وفرجه لا يفيق من سكره وإن أفاق فهو مشغول بالقمار بالبيض‏.‏

وهذا ما لم يسمع بمثله أن أحدًا من الملوك فعله لا يهتدي لمصلحة ولا يغضب لنفسه بحيث إن بلاده مأخوذة وعساكره طماعة ورعيته قد قهرها وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعًا ويتغلب على بعض البلاد فعل كما ذكرناه من حال بغدي وأيبك الشامي وإيغان طائيسي فنظر الله تعالى إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا ففعل بالكرج ما تراه وانتقم للإسلام والمسلمين منهم فنقول‏:‏

في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الكرج في شهر شعبان فإن جلال الدين من حين وصل إلى هذه النواحي لا يزال يقول‏:‏ إنني أريد أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم فلما ملك أذربيجان أسل إليهم يؤذنهم بالحرب فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك وهو أعظم منك ملكًا وأكثر عسكرًا وأقوى نفسًا ما تعلمه وأخذوا بلادكم فلم نبال بهم وكان قصاراهم السلامة منا‏.‏

وشرعوا يجمعون العساكر فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل فسار إليهم فملك مدينة دوين وهي للكرج كانوا قد أخذوها من المسلمين كما ذكرناه وسار منهم إليهم فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه وصبر كل منهم لصاحبه فانهزم الكرج وأمر أن يقتلوا بكل طريق ولا يبقوا على أحد منهم فالذي تحققناه أنه قتل منهم عشرون ألفًا وقيل‏:‏ أكثر من ذلك فقيل‏:‏ الكرج جميعهم قتلوا وافترقوا وأسر كثير من أعيانهم من جملتهم شلوة فنمت الهزيمة عليهم ومضى إيواني منهزمًا وهو المقدم على الكرج جميعهم ومرجعهم إليه ومعولهم عليه وليس لهم ملك إنما الملك امرأة ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول‏:‏ ‏(‏لن يفلح قوم ولوا‏)‏ فلما انهزم إيواني أدركه الطلب فصعد قلعة لهم على طريقهم فاحتمى فيها وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول وفرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون ويقتلون ويسبون ويخربون البلاد فلولا ما أتاه من تبريز ما أوجب عوده لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة لأن أهلها كانوا قد هلكوا فهم بين قتيل وأسير وطريد‏.‏

  ذكر عود جلال الدين إلى تبريز وملكه مدينة كنجة ونكاحه زوجة أوزبك

لما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج ودخل البلاد وبث العساكر فيها أمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين وعاد إلى تبريز‏.‏

وسبب عوده أنه كان قد خلف وزيره شرف الملك في تبريز ليحفظ البلد وينظر في مصالح الرعية فبلغه عن رئيس تبريز وشمس الدين الطغرائي وهو المقدم على كل من في البلد وعن غيرهما من المقدمين أنهم قد اجتمعوا وتحالفوا على الامتناع على جلال الدين وإعادة البلد إلى أوزبك وقالوا‏:‏ إن جلال الدين قد قصد بلاد الكرج فإذا عصينا عليه وأحضرنا أوزبك ومن معه من العساكر يضطر جلال الدين إلى العود فإذا عاد تبعه الكرج فلا يقدر على المقام فبنوا أمرهم على أن جلال الدين يسير الهوينا إلى بلاد الكرج ويتريث في الطريق احتياطًا منهم فلما اتفقوا على ذلك أتى الخبر إلى الوزير فأرسل إلى جلال الدين يعرفه الحال فأتاه الخبر وقد قارب بلاد الكرج فلم يظهر من ذلك شيئًا وسار نحو الكرج مجدًا فلقيهم وهزمهم فلما فرغ منهم قال لأمراء عسكره‏:‏ إنني قد بلغني من الخبر كذا وكذا فتقيمون أنتم في البلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم به وتخريب ما أمكنكم من بلادهم فإنني خفت أن أعرفكم قبل هزيمة الكرج لئلا يلحقكم وهن وخوف‏.‏

فأقاموا على حالهم وعاد هو إلى تبريز وقبض على الرئيس والطغرائي وغيرهما فأما الرئيس فأمر أن يطاف به على أهل البلد وكل من له عليه مظلمة فليأخذها منه وكان ظالمًا ففرح الناس بذلك ثم قتله وأما الباقون فحبسوا فلما فرغ منهم واستقام له أمر البلد تزوج زوجة أوزبك ابنة السلطان طغرل وإنما صح له نكاحها لأنه ثبت عن أوزبك أنه حلف بطلاقها أنه لا يقتل مملوكًا له اسمه‏.‏

ثم قتله فلما وقع الطلاق بهذه اليمن نكحها جلال الدين وأقام بتبريز مدة وسير منها جيشًا إلى مدينة كنجة فملكوها وفارقها أوزبك إلى قلعة كنجة فتحصن فيها‏.‏

فبلغني أن عساكر جلال الدين تعرضوا لأعمال هذه القلعة بالنهب والأخذ فأرسل أوزبك إلى جلال الدين يشكو ويقول‏:‏ كنت لا أرضى بهذه الحال لبعض أصحابي فأنا أسأل أن تكف الأيدي المتطرقة إلى هذه الأعمال عنها‏.‏

فأرسل جلال الدين إليها من يحميها من التعرض لها من أصحابه وغيرهم‏.‏

  ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين الله

في هذه السنة آخر ليلة من شهر رمضان توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي عبد الله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد محمد بن جعفر المتوكل على الله ولم يكن الموفق خليفة وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله فمات قبل المعتمد فصاروا ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله‏.‏

وكان المتوكل على الله ابن المعتصم بالله أبي إسحق محمد بن هرون الرشيد ابن محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي نسب كأن عليه من شمس الضحى نورًا ومن فلق الصباح عمودا فكان في آبائه أربعة عشر خليفة وهم كل من له لقب والباقون غير خلفاء وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم والمرفق بن المتوكل وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه فكان الشفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله وكان موسى الهادي أخا الرشيد ولي قبله وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم وليًا قبله وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده‏.‏

ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم وولي بعد المستعين المعاز بالله محمد وقيل طلحة وهو ابن المتوكل وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق ثم ولي بعده المعتمد على الله أحمد بن المتوكل فالمنتصر والمعتز والمعتمد إخوة الموفق والمهتدي ابن عمه والموفق من أجداد الناصر لدين الله‏.‏

ثم ولي المعتضد بعد المعتمد وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله وهو أخو المقتدر بالله وولي بعد المقتدر بالله أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر‏.‏

ثم ولي بعده المتقي لله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر ثم ولي بعده المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم فالقاهر والراضي والمتقي والمطيع بنوه والمستكفي ابن أخيه المكتفي‏.‏

ثم ولي الطائع لله بن المقتدر ثم ولي بعد الطائع القادر بالله وهو من أجداد الناصر لدين الله ثم ولي بعده المستظهر بالله ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور وولي بعد المسترشد بالله ابنه الراشد أبو جعفر فالمسترشد أخو المتقي والراشد بالله ابن أخيه فجمع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة‏.‏

وكانت أم الناصر أم ولد تركية اسمها زمرد وكانت خلافته ستًا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يومًا وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبًا فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر فإنه ولي ستين سنة ولا اعتبار به فإنه ولي وله سبع سنين فلا تصح ولايته‏.‏

وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلًا عن الحركة بالكلية وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يومًا ومات‏.‏

ووزر له عدة وزراء وقد تقدم ذكرهم ولم يطلق في طول مرضه شيئًا كان أحدثه من الرسوم الجائرة وكان قبيح السيرة في رعيته ظالمًا فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد وأخذ أملاكهم وأموالهم وكان يفعل الشيء وصده فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان فبقيت مدة ثم قطع ذلك ثم عمل دور الضيافة للحجاج فبقيت مدة ثم بطلها وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ثم أعادها‏.‏

وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة‏.‏

وكذلك أيضًا مع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ومنع الرمي بالندق إلا من ينتمي إليه فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنسانًا واحدًا يقال له ابن السفت من بغداد فإنه هرب من العراق ولحق بالشام فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه وينسب في الرمي إليه‏:‏ فلم يفعل فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال فقال‏:‏ يكفيني فخرًا أنه ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة إلا أنا‏.‏

فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعظم الأمور وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحًا من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب‏.‏

قد ذكرنا سنة خمس وثمانين وخمسمائة الخطبة للأمير أبي نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد ثم بعد ذلك خلعه الخليفة من ولاية العهد وأرسل إلى البلاد في قطع الخطبة له وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولده الصغير علي فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد فاضطر إلى إعادته إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيء‏.‏

فلما توفي أبوه ولي الخلافة وأحضر الناس لأخذ البيعة وتلقب بأمر الله وعنى أن أباه وجميع أصحابه أرادوا صرف الأمر عنه فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحد‏.‏

ولما ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا فإنه أعاد الخراج القديم في جميع العراق وأن يسقط جميع ما جدده أبوه وكان كثيرًا لا يحصى فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديمًا نحو عشرة آلاف دينار فلما تولى الناصر لدين الله كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار فحضر أهلها واستغاثوا وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ فأمر أن يؤخذ الخراج القديم وهو عشرة آلاف دينار فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن فمن أين يكون العوض فأقام لهم العوض من جهات أخرى فإذا كان المطلق من جهة واحدة

ومن أفعاله الجميلة أنه أمر بأخذ الخراج الأول من باقي البلاد جميعها فحضر كثير من أهل العراق وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديمًا يبس أكثر أشجارها وخربت ومتى طولبوا بالخراج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج فأمر أن لا يؤخذ الخراج إلا من كل شجرة سليمة وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء وهذا عظيم جدًا‏.‏

ومن ذلك أيضًا أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير وأوله ‏{‏ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى‏.‏

فكتب بعض النواب إليه يقول‏:‏ إن هذا مبلغ كثير وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول‏:‏ لو أنه ثلاث مائة ألف وخمسون ألف دينار يطلق‏.‏

وكذلك أيضًا فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان وهي في كل دينار حبة وتقدم إلى القاضي أن كل من عرض عليه كتابًا صحيحًا بملك يعيده إليه من غير إذن وأقام رجلًا صالحًا في ولاية الحشري وبيت المال وكان الرجل حنبليًا فقال‏:‏ إنني من مذهبي أن أورث ذوي الأرحام فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا‏.‏

فقال له‏:‏ أعط كل ذبي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه‏.‏

ومنها أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك ويكتب ما سوى ذلك من صغير كبير فكان الناس من هذا في حجر عظيم فلما ولي هذا الخليفة جاه الله خيرًا أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال‏:‏ أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا فقيل له‏:‏ إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها فقال‏:‏ نحن ندعو الله أن يصلحهم‏.‏

ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال فأصعد ومعه من المال ما يزيد على مائة ألف دينار وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه ويستخرج الأمر في حمله فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه فلا حاجة لنا إليه فأعيد عليهم‏.‏

ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون وأمر بإعادة ما أخذ منهم‏.‏

وأرسل إلى القاضي عشرة ومن سن نيته للناس أن الأسعار في الموصل وديار الجزيرة كانت غالية فرخصت الأسعار وأطلق حمل الأطعمة إليها وأن يبيع كل من أراد البيع للغلة فحمل منها الكثير الذي لا يحصى فقيل له‏:‏ إ السعر قد غلا شيئًا والمصلحة المنع منه فقال‏:‏ أولئك مسلمون وهؤلاء مسلمون وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك‏.‏

وأمر أن يباع من الأهراء التي له طعام أرخص ما يبيع غيره ففعلوا ذلك فرخصت الأسعار عندهم أيضًا أكثر مما كانت أولًا وكان السعر في الموصل لما ولي كل مكوك بدينار وثلاثة قراريط فصار كل أربعة مكاكيك بدينار في أيام قليلة وكذلك باقي الأشياء من التمر والدبس والأرز والسمسم وغيرها فالله تعالى يؤيده وينصره ويبقيه فإنه غريب في هذا الزمان الفاسد‏.‏

ولقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جدًا وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها فقال لهم‏:‏ أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم أعيش وتصدق ليله عيد الفطر من هذه السنة وفرق في العلماء وأل الدين مائة ألف دينار‏.‏

 ذكر ملك بدر الدين قلعتي العمادية وهرور

في هذه السنة ملك بدر الدين قلعة العمادية من أعمال الموصل وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة وتسليمها إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة بدر الدين وخلافهم على عماد الدين فلما عادوا إلى بدر الدين أحسن إليهم وأعطاهم الإقطاع الكثير وملكهم القرى ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية فبقوا كذلك مدة يسيرة‏.‏

ثم شرعوا يراسلون عماد الدين زنكي ومظفر الدين صاحب إربل وشهاب الدين غازي بن العادل لما كان بخلاط ويعدون كلًا منهم بالانحياز إليه والطاعة له وأظهروا من المخالفة لبدر الدين ما كانوا يبطنونه فكانوا لا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب بدر الدين إلا من يريدونه ويمنعون من كرهوه فطال الأمر وهو يحتمل فعلهم ويداريهم وهم لا يزدادون إلا طمعًا وخروجًا عن الطاعة‏.‏

وكانوا جماعة فاختلفوا فقوي بعضهم وهم أولاد خواجه إبراهيم وأخوه ومن معهم على الباقين فأخرجوهم عن القلعة وغلبوا عليها وأصروا على ما كانوا عليه من النفاق‏.‏

فلما كان هذه السنة سار بدر الدين إليهم في عساكره فأتاهم بغتة فحصرهم وضيق عليهم وقطع الميرة عنهم وأقام بنفسه عليهم وجعل قطعة من الجيش على قلعة هرور يحصرونها وهي من أمنع الحصون وأحصنها لا يوجد مثلها وكان أهلها أيضًا قد سلكوا طريق أهل العمادية من

عصيان وطاعة ومخادعة فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة فحصروها أيامًا ففني ما في القلعة فاضطر أهلها إلى التسليم فسلموها ونزلوا منها‏.‏

وعاد العسكر إلى العمادية فأقاموا عليها مع بدر الدين فبقي بدر الدين بعد أخذ هرور يسيرًا وعاد إلى الموصل وترك العسكر بحاله مع ابنه أمين الدين لؤلؤ فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة فأرسلوا يذعنون بالطاعة ويطلبون العوض عنها ليسلموها فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها وأقطاع ومال وغير ذلك فأجابهم بدر الدين إلى ما طلبوا وحضر نوابهم ليحلفوا بدر الدين‏.‏

فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد أحضر من يشهد اليمين إذ قد وصل طائر من العمادية وعلى جناحه رقعة من أمين الدين لؤلؤ يخبر أنه قد ملك العمادية قهرًا وعنوة وأسر بني خواجه الذين كانوا تغلبوا عليه فامتنع بدر الدين من اليمين‏.‏

وأما سبب غلبة أمين الدين عليها فإنه كان قد ولاه بدر الدين عليها لما عاد أهلها إلى طاعته فبقي فيها مدة وأحسن فيهم واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحرب للذين عصوا أولًا فنمى الخبر إليهم فأساؤوا مجاورته واستقالوا من ولايته عليهم ففارقهم إلى الموصل‏.‏

وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه فلما حصرهم كانوا أيضًا يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد خواجة من إنفاذ رسول وغير ذلك وبما عندهم من الذخائر وغيرها إلا إنهم لم يكونوا من الكثرة إلى حد أنهم يقهرون أولئك‏.‏

فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد خواجه أحدًا من جند القلعة في نسخة اليمين بمال ولا غيره من أمان وإقطاع فسخطوا هذه الحال وقالوا لهم‏:‏ قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم فلم تذكرونا فأهانوهم ولم يلتفتوا إليهم فحضر عند أمين الدين رجلان منهم ليلًا وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعًا يصعدونهم إلى القلعة ويثبون بأولئك ويأخذونهم فامتنع فقال‏:‏ أخاف أن لا يتم هذا الأمر ويفسد علينا كل ما فعلناه‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نقبض عليهم غدًا بكرة وتكون أنت والعسكر على ظهر فإذا سمعتم النداء باسم بدر الدين وشعاره تصعدون إلينا فأجابهم إلى ذلك‏.‏

وركب بنفسه بكرة هو والعسكر على العادة وأما أولئك فإنهم اجتمعوا وقبضوا على أولاد خواجة ومن معهم ونادوا بشعار بدر الدين فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم بدر الدين فصعدوا إليها وملكوها وتسلم أمين الدين أولاد خواجه فحبسهم وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال وملكوا القلعة صفوًا وعفوًا بغير عوض وكان يريد أن يغرم مالًا جليلًا وأقطاعًا كثير وحصنًا منيعًا فتوفر الجميع عليه وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه وإذا